فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{إِنّ هذِهِ تذْكِرةٌ فمنْ شاء اتّخذ إِلى ربِّهِ سبِيلا (19)}
الإشارة بقوله: {إِنّ هذه} إلى ما تقدّم من الآيات، والتذكرة الموعظة، والإشارة إلى جميع آيات القرآن، لا إلى ما في هذه السورة فقط {فمن شاء اتخذ إلى ربّهِ سبِيلا} أي: اتخذ بالطاعة التي أهم أنواعها التوحيد إلى ربه طريقا توصله إلى الجنة.
{إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ أدنى مِن ثُلُثىِ اليل} معنى {أدنى}: أقلّ، استعير له الأدنى؛ لأن المسافة بين السنين إذا دنت قلّ ما بينهما {ونِصْفهُ} معطوف على أدنى {وثُلُثهُ} معطوف على {نصفه}، والمعنى: أن الله يعلم أن رسوله صلى الله عليه وسلم يقوم أقلّ من ثلثي الليل، ويقوم نصفه، ويقوم ثلثه، وبالنصب قرأ ابن كثير، والكوفيون، وقرأ الجمهور: {ونصفه وثلثه} بالجر عطفا على ثلثي الليل، والمعنى: أن الله يعلم أن رسوله يقوم أقلّ من ثلثي الليل، وأقلّ من نصفه، وأقلّ من ثلثه، واختار قراءة الجمهور أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: {علِم أن لّن تُحْصُوهُ} فكيف يقومون نصفه وثلثه وهم لا يحصونه.
وقال الفرّاء: القراءة الأولى أشبه بالصواب؛ لأنه قال: أقلّ من ثلثي الليل، ثم فسر نفس القلة {وطائِفةٌ مّن الذين معك} معطوف على الضمير في {تقوم}: أي: وتقوم ذلك القدر معك طائفة من أصحابك.
{والله يُقدّرُ اليل والنهار} أي: يعلم مقادير الليل والنهار على حقائقها، ويختص بذلك دون غيره، وأنتم لا تعلمون ذلك على الحقيقة.
قال عطاء: يريد لا يفوته علم ما تفعلون.
أي: أنه يعلم مقادير الليل والنهار، فيعلم قدر الذي تقومونه من الليل {علِم أن لّن تُحْصُوهُ} أن لن تطيقوا علم مقادير الليل والنهار على الحقيقة، وفي أن ضمير شأن محذوف.
وقيل المعنى: لن تطيقوا قيام الليل.
قال القرطبي: والأوّل أصحّ، فإن قيام الليل ما فرض كله قط، قال مقاتل وغيره: لما نزل {قُمِ اليل إِلاّ قلِيلا نّصْفهُ أوِ انقص مِنْهُ قلِيلا أوْ زِدْ عليْهِ} [المزمل: 2 4] شقّ ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتفخت أقدامهم، وانتقعت ألوانهم، فرحمهم الله، وخفف عنهم فقال: {علِم أن لّن تُحْصُوهُ} أي: علم أن لن تحصوه؛ لأنكم إن زدتم ثقل عليكم واحتجتم إلى تكلف ما ليس فرضا، وإن نقصتم شق ذلك عليكم.
{فتاب عليْكُمْ} أي: فعاد عليكم بالعفو، ورخص لكم في ترك القيام.
وقيل: فتاب عليكم من فرض القيام إذا عجزتم، وأصل التوبة الرجوع، كما تقدّم؛ فالمعنى: رجع بكم من التثقيل إلى التخفيف، ومن العسر إلى اليسر.
{فاقرءوا ما تيسّر مِن القرءان} أي فاقرءوا في الصلاة بالليل ما خف عليكم، وتيسّر لكم منه من غير أن ترقبوا وقتا.
قال الحسن: هو ما نقرأ في صلاة المغرب والعشاء.
قال السديّ: ما تيسّر منه هو مائة آية.
قال الحسن: أيضا من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن.
وقال كعب: من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين.
وقال سعيد: خمسون آية.
وقيل: معنى {فاقرءوا ما تيسّر مِنْهُ}: فصلوا ما تيسّر لكم من صلاة الليل، والصلاة تسمى قرآنا، كقوله: و{أقِمِ الصلاة} [الإسراء: 78].
قيل: إن هذه الآية نسخت قيام الليل ونصفه، والنقصان من النصف والزيادة عليه، فيحتمل أن يكون ما تضمنته هذه الآية فرضا ثابتا، ويحتمل أن يكون منسوخا لقوله: {ومِن اليل فتهجّدْ بِهِ نافِلة لّك عسى أن يبْعثك ربُّك مقاما مّحْمُودا} [الإسراء: 79].
قال الشافعي: الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين.
فوجدنا سنة رسول الله تدلّ على أن لا واجب من الصلاة إلاّ الخمس.
وقد ذهب قوم إلى أن قيام الليل نسخ في حقه وفي حق أمته.
وقيل: نسخ التقدير بمقدار وبقي أصل الوجوب.
وقيل: إنه نسخ في حق الأمة، وبقي فرضا في حقه، والأولى القول بنسخ قيام الليل على العموم في حقه وفي حق أمته، وليس في قوله: {فاقرءوا ما تيسّر مِنْهُ} ما يدل على بقاء شيء من الوجوب؛ لأنه إن كان المراد به القراءة من القرآن، فقد وجدت في صلاة المغرب والعشاء وما يتبعهما من النوافل المؤكدة، وإن كان المراد به الصلاة من الليل، فقد وجدت صلاة الليل بصلاة المغرب والعشاء وما يتبعهما من التطوّع.
وأيضا الأحاديث الصحيحة المصرّحة بقول السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل عليّ غيرها، يعني: الصلوات الخمس؟ فقال: «لا، إلاّ أن تطوّع» تدل على عدم وجوب غيرها.
فارتفع بهذا وجوب قيام الليل، وصلاته على الأمة، كما ارتفع وجوب ذلك على النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: {ومِن اليل فتهجّدْ بِهِ نافِلة لّك}، قال الواحدي: قال المفسرون في قوله: {فاقرءوا ما تيسّر مِنْهُ} كان هذا في صدر الإسلام، ثم نسخ بالصلوات الخمس عن المؤمنين، وثبت على النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة، وذلك قوله: {وأقيموا الصلاة}.
ثم ذكر سبحانه عذرهم فقال: {علِم أن سيكُونُ مِنكُمْ مرضى} فلا يطيقون قيام الليل {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} أي: يسافرون فيها للتجارة والأرباح يطلبون من رزق الله ما يحتاجون إليه في معاشهم فلا يطيقون قيام الليل {وآخرون يقاتلون في سبيل الله} يعني: المجاهدين، فلا يطيقون قيام الليل.
ذكر سبحانه هاهنا ثلاثة أسباب مقتضية للترخيص، ورفع وجوب قيام الليل، فرفعه عن جميع الأمة لأجل هذه الأعذار التي تنوب بعضهم.
ثم ذكر ما يفعلونه بعد هذا الترخيص فقال: {فاقرءوا ما تيسّر مِنْهُ} وقد سبق تفسيره قريبا، والتكرير للتأكيد {وأقيموا الصلاة} يعني: المفروضة، وهي الخمس لوقتها {وآتوا الزكاة} يعني: الواجبة في الأموال.
وقال الحارث العكلي: هي صدقة الفطر؛ لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك.
وقيل: صدقة التطوّع.
وقيل: كل أفعال الخير {وأقْرِضُواُ الله قرْضا حسنا} أي: أنفقوا في سبيل الخير من أموالكم إنفاقا حسنا، وقد مضى تفسيره في سورة الحديد.
قال زيد بن أسلم: القرض الحسن النفقة على الأهل.
وقيل: النفقة في الجهاد، وقيل: هو إخراج الزكاة المفترضة على وجه حسن، فيكون تفسيرا لقوله: {وآتوا الزكاة} والأوّل أولى لقوله: {وما تُقدّمُواْ لأنْفُسِكُم مّنْ خيْرٍ تجِدُوهُ عِند الله} فإن ظاهره العموم، أي: أيّ خير كان مما ذكر ومما لم يذكر {هُو خيْرا وأعْظم أجْرا} مما تؤخرونه إلى عند الموت، أو توصون به ليخرج بعد موتكم، وانتصاب {خيرا} على أنه ثاني مفعولي {تجدوه}، وضمير هو ضمير فصل، وبالنصب قرأ الجمهور، وقرأ أبو السماك، وابن السميفع بالرفع على أن يكون {هو} مبتدأ، و{خير} خبره، والجملة في محل نصب على أنها ثاني مفعولي {تجدوه}.
قال أبو زيد: وهي لغة تميم يرفعون ما بعد ضمير الفصل، وأنشد سيبويه:
تحنّ إلى ليلى وأنت تركتها ** وكنت عليها بالملاء أنت أقدر

وقرأ الجمهور أيضا: {وأعظم} بالنصب عطفا على {خيرا}، وقرأ أبو السماك، وابن السميفع بالرفع، كما قرأ برفع {خير}، وانتصاب {أجرا} على التمييز {واستغفروا الله} أي: اطلبوا منه المغفرة لذنوبكم، فإنكم لا تخلون من ذنوب تقترفونها {إِنّ الله غفُورٌ رّحِيمٌ} أي: كثير المغفرة لمن استغفره، كثير الرحمة لمن استرحمه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والطبراني عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «{فاقرءوا ما تيسّر مِنْهُ} قال: مائة آية».
وأخرج الدراقطني، والبيهقي في سننه، وحسناه عن قيس بن أبي حازم قال: صليت خلف ابن عباس، فقرأ في أوّل ركعة بالحمد لله ربّ العالمين، وأوّل آية من البقرة، ثم ركع، فلما انصرفنا أقبل علينا، فقال: إن الله يقول: {فاقرءوا ما تيسّر مِنْهُ} قال ابن كثير: وهذا حديث غريب جدا لم أره إلاّ في معجم الطبراني.
وأخرج أحمد، والبيهقي في سننه عن أبي سعيد قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسّر».
وقد قدّمنا في البحث الأوّل من هذه السورة ما روي أن هذه الآيات المذكورة هنا هي الناسخة لوجوب قيام الليل، فارجع إليه. اهـ.

.قال القاسمي:

سورة المزمل:
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{يا أيُّها الْمُزّمِّلُ} أي: المتزمل. من تزمل بثيابه إذا تلفف بها. فأدغم التاء في الزّاي؛ خوطب صلى الله عليه وسلم بحكاية حاله وقت نزول الوحي، ملاطفة وتأنيسا وتنشيطا للتشمر لقيام الليل، وقيل: معناه المتحمل أعباء النبوة، من تزمل الزِّمْل، إذا تحمل الحمل؛ ففيه استعارة، شّبه إجراء التبليغ بتحمل الحمل الثقيل، بجامع المشقة.
قال الشهاب: وأورد عليه أنه مع صحة المعنى الحقيقي، واعتضاده بالأحاديث الصحيحة، لا وجه لادعاء التجوز فيه.
وقد يجاب بأن الأحاديث رويت في نزول سورة المدثر، لا في هذه السورة، كما سيأتي إن شاء الله، إلا أن يقال: هما بمعنى واحد.
{قُمِ اللّيْل} أي: فيه للصلاة، ودع التزمُّل للهجوع {إِلاّ قلِيلا} أي: بحكم الضرورة للاستراحة، ومصالح البدن التي لا يمكن بقاؤه بدونها.
ثم بيّن تعالى قدر القيام مخيرا له بقوله: {نِصْفهُ} أي: نصف الليل بدل من الليل.
{أوِ انقُصْ مِنْهُ} أي: من النصف {قلِيلا} أي: إلى الثلث.
{أوْ زِدْ عليْهِ} أي: النصف إلى الثلثين، والمقصود التخيير بين قيام النصف وما فوقه وما دونه. ولا يقال: كيف يكون النصف قليلا وهو مساوٍ للنصف الآخر؟ لأن القلة بالنسبة إلى الكل، لا إلى عديله.
{ورتِّلِ القرآن ترْتِيلا} أي: بيّنه تبيينا، وترسّل فيه ترسلا.
قال الزمخشري: ترتيل القرآن قراءته على ترسل وتؤده، بتبيين الحرف، وإشباع الحركات، حتى يجيء المتلوّ منه شبيها بالثغر المرتل، وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان، وأن لا يهذّه هذّا، ولا يسرده سردا.
تنبيه:
قال السيوطي: في الآية استحباب ترتيل القراءة، وأنه أفضل من الهذّ به، وهو واضح.
وقد ثبت في السُّنة أنه صلى الله عليه وسلم: «كان يقطع قراءته آية آية، وأنها كانت مفسرة حرفا حرفا، وأنه كان يقف على رؤوس الآي».
واستدل بالآية على أن الترتيل والتدبُّر، مع قلة القراءة أفضل من سرعة القراءة مع كثرتها، لأن المقصود من القرآن فهمه وتدبُّره، والفقه فيه، والعمل به.
قال ابن مسعود: لا تهذُّوا القرآن هذّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة.
{إِنّا سنُلْقِي عليْك قولا ثقِيلا} أي: رصينا، لرزانة لفظه، ومتانة معناه، ورجحانه فيهما على ما عداه.
ولما كان الراجح من شأنه ذلك، تجوّز بالثقيل عنه. أو ثقيلا على المتأمّل فيه، لافتقاره إلى مزيد تصفيه للسر، وتجريد للنظر. أو ثقيلا تلقّيه، لقول عائشة رضي الله عنها: «رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقا». وعلى كل فالجملة معللة للأمر بالترتيل، وأن ثقله مما يستدعيه.
{إِنّ ناشِئة اللّيْلِ} أي: نشأته وطبيعته خلقه ومظهره {هِي أشدُّ وطْأ} أي: موافقة لما يراد منها من جمع الهم، وهدوء البال.
{وأقْومُ قِيلا} أي: أشدّ مقالا وأصوبه.
قال ابن قتيبة: لأن الليل تهدأ فيه الأصوات، وتنقطع فيه الحركات، ويخلص القول، ولا يكون دون تسمّعه وتفهمه حائل.
ونقل السيوطي عن الجاحظ قال: ناشئة الليل هي المعاني المستنبطة من القرآن بالليل، أشد وطأ أبين أثرا. وأقوم قيلا، أصحُّ مما تخرجه الأفكار بالنهار، لخلوّ السمع والبصر عن الاشتغال.
{إِنّ لك فِي النّهارِ سبْحا طوِيلا} أي: تقلبا في مهماتك، واشتغالا بها، فلذا أمرت بقيام الليل.
{واذْكُرِ اسْم ربِّك} أي: دم على ذكره ليلا ونهارا. قال الزمخشري: وذكر الله يتناول كل ما كان من ذكرٍ طيب: تسبيح وتهليل وتكبير وتمجيد وتوحيد وصلاة وتلاوة قرآن، ودراسة علم، وغير ذلك مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغرق به ساعات ليله ونهاره.
{وتبتّلْ إِليْهِ تبْتِيلا} أي: أخلص إليه بتجريد النفس عن غيره، إخلاصا عظيما.
{ربُّ الْمشْرِقِ والْمغْرِبِ لا إِله إِلّا هُو فاتّخِذْهُ وكِيلا} أي: تكل إليه مهامك، فإنه سيكفيكها.
قال ابن جرير: أي: فيما يأمرك، وفوض إليه أسبابك.
{واصْبِرْ على ما يقولون} أي: من الأذى والفرْي {واهْجُرْهُمْ هجْرا جمِيلا} أي: بالإعراض عن مكافأتهم بالمثل، كما قال تعالى: {ودعْ أذاهُمْ وتوكّلْ على اللّهِ} [الأحزاب: 48] {وذرْنِي والْمُكذِّبِين} أي: دعني وإياهم، وكِل أمرهم إليّ، فإن بي غنيمة عنك في الانتقام منهم.
{أُولِي النّعْمةِ} أي: التنعم، يريد صناديد قريش ومترفيهم.
{ومهِّلْهُمْ قلِيلا} أي: تمهل عليهم زمانا، أو إمهالا قليلا.
{إِنّ لديْنا أنكالا} أي: قيودا {وجحِيما} أي: نار شديدة الحرّ والاتّقاد {وطعاما ذا غُصّةٍ} أي: يغصُّ به آكله فلا يسيغه، {وعذابا ألِيما} أي: ونوعا آخر من أنواع العذاب مؤلما لا يعرف كنهه. أي: فلا ترى موكولا إليه أمرهم ينتقم منهم بمثل ذلك الانتقام.
{يوْم ترْجُفُ الْأرْضُ والْجِبالُ} أي: تضطرب وترتجّ بالزلزال، {وكانتِ الْجِبالُ كثِيبا مّهِيلا} أي: رملا متفرقا منثورا.
{إِنّا أرْسلْنا إِليْكُمْ رسُولا شاهِدا عليْكُمْ} أي: بإجابة من أجاب وإباء من أبى {كما أرْسلْنا إِلى فِرْعوْن رسُولا} أي: يدعوه إلى الحق.
{فعصى فِرْعوْنُ الرّسُول فأخذْناهُ أخْذا وبِيلا} أي: ثقيلا، وذلك بإهلاكه ومن معه، غرقا في اليم.
{فكيْف تتّقُون إِنْ كفرْتُمْ يوْما يجْعلُ الْوِلْدان شِيبا السّماء مُنفطِرٌ بِهِ كان وعْدُهُ مفْعُولا إِنّ هذِهِ تذْكِرةٌ فمن شاء اتّخذ إِلى ربِّهِ سبِيلا} [17- 19]
{فكيْف تتّقُون إِن كفرْتُمْ يوْما يجْعلُ الْوِلْدان شِيبا} أي: كيف تقون أنفسكم إن بقيتم على كفركم، ولم تؤمنوا بالحق، يوم القيامة، وحاله في الهول ما ذكر.
قال ابن أبي الحديد: لأن في اليوم الشديد: إنه ليشيب نواصي الأطفال، كلام جار مجرى المثل. وليس ذلك على حقيقته؛ لأن الأمّة مجتمعة على أن الأطفال لا تتغير حُلاهم في الآخرة إلى الشيب. والأصل في هذا أن الهموم والأحزان إذا توالت على الْإِنْساْن شاب سريعا. قال أبو الطيب:
والهمُّ يخترم الجسيم نحافة ** ويشيب ناصية الصبيّ ويُهْرٍمُ

{السّماء مُنفطِرٌ بِهِ} قال الزمخشريّ: وصف لليوم بالشدة أيضا. وأن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه، فما ظنك بغيرها من الخلائق؟
قال السمين: وإنما لم تؤنث الصفة لأحد الوجوه:
منها: تأويله بالمشتق. ومنها: أنها على النسب، أي: ذات انفطار، نحو: مرضع وحائض.
ومنها: أنها تذكر وتؤنث. ومنها: أنها اسم جنس يفرق بينه وبين واحدة بالتاء، فيقال: سماءة، وفي اسم الجنس التذكير والتأنيث. والباء في {بِهِ} سببية أو للاستعانة، أو بمعنى في.
{كان وعْدُهُ مفْعُولا} أي: لأنه لا يخلف وعده، فاحذروا ذلك اليوم.
{إِنّ هذِهِ} أي: الآيات الناطقة بالوعيد الشديد {تذْكِرة} أي: موعظة لمن اعتبر بها واتّعظ، {فمن شاء اتّخذ إِلى ربِّهِ سبِيلا} أي: بالإيمان به، والعمل بطاعته.
{إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ أدْنى مِن ثُلُثيِ اللّيْلِ ونِصْفهُ وثُلُثهُ} أي: تتهجد فيه هذه التارات المختلفة، وتتشمر للعبادة فيه هذا التشمر امتثالا لأمره وتبتلا إليه، {وطائِفةٌ مِّن الّذِين معك} أي: يعلمهم كذلك، {واللّهُ يُقدِّرُ اللّيْل والنّهار} أي: أن يجعلهما على مقادير يجريان عليها، فتارة يعتدلان، وتارة يزيد أحدهما في الآخر، وبالعكس مما يشق لأجله المواظبة على قيامه بما علمه منكم. أشار إليه ابن كثير. أو المعنى: السورة من التخيير، ترخيصا وتيسيرا.
{علِم أن لّن تُحْصُوهُ} أي: قيام الليل على النحو الذي دأبتم عليه، أو قيام الليل كله، للحرج والعسر {فتاب عليْكُمْ} أي: عاد عليكم باليسر ورفع الحرج.
{فاقْرؤُوا ما تيسّر مِن القرآن} أي: في صلاة الليل بلا تقدير. أو المراد: لا تتجاوزوا ما قدره لكم، رحمة بأنفسكم. وفيه رد من غلوهم في قيام الليل كله، أو الحرص عليه، شوقا إلى العبادة، وسبقا إلى الكمالات.
قال مقاتل: كان الرجل يصلي الليل كله، مخافة أن لا يصيب مما أمر به من قيام ما فرض عليه- نقله الرازي-.
{علِم أن سيكُونُ مِنكُم مّرْضى} أي: يضعفهم المرض عن قيام الليل {وآخرُون يضْرِبُون فِي الْأرْضِ} أي: للتجارة وغيرها، فيقعدهم ذلك عن قيام الليل {وآخرُون يُقاتِلُون فِي سبِيلِ اللّهِ} أي: لنصرة الدين، فلا يتفرّغون للقيام فيه {فاقْرؤُوا ما تيسّر مِنْهُ} أي: من القرآن، ولا تحرّجوا أنفسكم، لأنه تعالى يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.
تنبيهات:
الأول: ذهب كثير من السلف إلى وجوب قيام الليل المفهوم من الأمر به طليعة السورة، منسوخ بهذه الآيات.
روى ابن جرير عن عائشة قالت: كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا يصلي عليه من الليل، فتسامع به الناس فاجتمعوا، فخرج كالمغضب- وكان بهم رحيما- فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل، فقال: «يا أيها الناس؟ اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب، حتى تملوا من العمل، وخير الأعمال ما دمتم عليه»؛ ونزل القرآن: {يا أيُّها الْمُزّمِّلُ قُمِ اللّيْل إِلّا قلِيلا} الآية، حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر، فرأى اللهُ ما يبتغون من رضوانه فرحمهم، فردهم إلى الفريضة، وترك قيام الليل.
قال ابن كثير: والحديث في(الصحيح) بدون زيادة نزول هذه السورة، وهذا السياق قد يوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة، وليس كذلك، وإنما هي مكية. انتهى كلامه.
أقول: وبمثل هذه الرواية يستدل على أن مراد السلف بقولهم: ونزلت الآية، الاستشهاد بها في قضية تنطبق عليها، كما بيناه مرارا.
وأخرج أيضا عن ابن عباس قال: أمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليلا، فشقّ ذلك على المؤمنين، ثم خفف عنهم فرحمهم، وأنزل الله بعد هذا: {علِم أن سيكُونُ مِنكُم} الآية، فوسع الله- وله الحمد- ولم يضيق.
وعن أبي عبد الرحمن قال: لما نزلت: {يا أيُّها الْمُزّمِّلُ} قاموا بها حوْلا حتى ورمِت أقدامهم وسُوقهم، حتى نزلت: {فاقْرؤُوا ما تيسّر مِنْهُ} فاستراح الناس.
وهكذا روي عن سعيد والحسن وعكرمة وقتادة.
قال ابن حجر في (شرح البخاري): ذهب بعضهم إلى أن صلاة الليل كانت مفروضة، ثم نسخت بقيام بعض الليل مطلقا، ثم نسخ بالخمس. وأنكره المروزيّ. وذهب بعضهم إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة.
وقال السيوطيّ في (الإكليل): قوله تعالى: {قُمِ اللّيْل إِلّا قلِيلا} هو منسوخ بعد أن كان واجبا، بآخر السورة. وقيل: محكم، فاستدل به ندب قيام الليل. واستدل به طائفة على وجوبه على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وآخرون على وجوبه على الأمة أيضا، ولكن ليس الليل كله، بل صلاة ما فيه، وعليه الحسن وابن سيرين. انتهى.
أقول: من ذهب إلى أن الأمر محكم وأنه للندب، يرى أن آخر السورة تعليمٌ لهم الرفق بأنفسهم، لأنه تاب عليهم باليسر، ورفع عنهم الآصار. وفيه ما يدل على عنايتهم بالمندوب، وحرصهم عليه، حتى أفضى الحال إلى الرفق بهم فيه. ويدل عليه أثر عائشة في ربطهم الحبل للتعلق به، استعانة على قراءة القرآن، وكثرة تلاوته.
الثاني: قال ابن كثير: في قوله تعالى: {فاقْرؤُوا ما تيسّر مِن القرآن} تعبير عن الصلاة بالقراءة، كما قال في سورة سبحان: {ولا تجْهرْ بِصلاتِك} [الإسراء: 110]، أي: بقرأءتك. وقد استدل أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، بهذه الآية، على أنه لا تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن، ولو بآية، أجزأه. واعتضدوا بحديث المسيء صلاته الذي في (الصحيحين)، وهو: «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن». وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت، وهو في(الصحيحين) أيضا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة إلا أن يقرأ بفاتحة الكتاب». انتهى.
الثالث: في قوله تعالى: {وآخرُون يُقاتِلُون فِي سبِيلِ اللّهِ} علم من أعلام النبوة.
قال ابن كثير: هذه الآية، فهي السورة كلها، مكية. ولم يكن القتال شرع بعد، فهي من أكبر دلائل النبوة، لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة.
الرابع: قال ابن الفرس: في قوله: {وآخرُون يضْرِبُون فِي الْأرْضِ يبْتغُون مِن فضْلِ اللّهِ} فضيلة التجارة، لسوقها في الآية مع الجهاد.
أخرج سعيد بن منصور عن عمر بن الخطاب قال: ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله، أحب إلي أن يأتيني وأنا ألتمس من فضل الله. ثم تلا هذه الآية.
وقال السيوطي: هذه الآية أصل في التجارة.
{وأقِيمُواْ الصّلاة وآتُواْ الزّكاة} أي: زكاة أموالكم.
قال ابن كثير: وهذا يدل لمن قال بأن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النصب والمخرج لم تبين إلا بالمدينة.
{وأقْرضُوا اللّه قرْضا حسنا} يعني به بذل المال في سبيل الخيرات على أحسن وجه، يكون من أطيب المال، وإعطاءه للمستحق من غير تأخير، واتقاء المنّ والأذى. وسر الأمر بـ الحسن أن القرض لما كان يعطى بنية الأخذ، لا يبالي بأي شيء وأي مقدار يعطي منه، فأشير إلى إيثار المقام الأرفع. ولكونه محقق الرجوع إليه دل التعبير به على تحقق العوض هنا.
{وما تُقدِّمُواْ لأنفُسِكُم مِّنْ خيْرٍ} أي: في الدنيا من صدقة أو نفقة في وجوه الخير، أو عمل بطاعة الله، أو غير ذلك من أعمال البر {تجِدُوهُ عِند اللّهِ هُو خيْرا وأعْظم أجْرا} أي: ثوابا مما عندكم من متاع الدنيا.
{واسْتغْفِرُواْ اللّه} أي: سلوه غفران ذنوبكم، {إِنّ اللّه غفُورٌ رّحِيمٌ} أي: ذو مغفرة لذنوب من تاب إليه وأناب، ورحمة أن يعاقبكم عليها بعد توبتهم منها. اهـ.